الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

رؤية الى العقيدة العسكرية الروسية ( 2011 – 2015 )


قبل التطرق الى تحليل إستراتيجية العقيدة العسكرية الروسية الجديدة 2011 – 2015 م , والتي من المقرر ان تدخل حيز التنفيذ اعتبارا من بداية العام 2010 م , وجدنا من الضرورة التوقف عند بعض المحطات والمراحل التاريخية السابقة ذات السياق نفسه , وذلك بهدف تعميق الفهم حول الرؤية الروسية لتلك الأسباب والدوافع التي طرأت على خارطة التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية العالمية الحديثة , ومنها تشكلت تلك التوجهات الروسية السياسية والعسكرية خلال المرحلة السابقة , والتي من خلال أحداثها وتحولاتها وضعت العقيدة العسكرية الروسية الثالثة في القرن الحادي والعشرين 0
وبالعودة الى تلك المراحل والمحطات التاريخية نجد ان روسيا الحديثة " روسيا بوتين " بشكل عام قد توقفت عند 3 مراحل جيوسياسية حتى نهاية العام 2009م , وهي :-
          * مرحلة الانتشال " عقيدة استعادة الدولة " والتي بدأت بالفترة الأولى لحكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين , واستمرت حتى نهاية فترة رئاسته الأولى ( 2000م – 2004 م ) , ويعتبر الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين ان تلك الفترة تحديدا كانت اقرب الى استعادة الدولة القومية القوية في مختلف جوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية , حيث ان الروس وفي تلك المرحلة كانوا  قد خرجوا من حقبة تاريخية عصيبة جدا , اثر الانهيار الجيوسياسي العالمي بسقوط الاتحاد السوفيتي مع بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين , كذلك فقد كان للتفسخ الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والتبعية الجيواستراتيجية والفوضى والصراعات الداخلية , الدور الآخر الذي ساهم وساعد في تأخر استعادة الروس لمكانتهم العالمية 0
لذا – وباختصار شديد - فان العقيدة العسكرية الروسية في تلك المرحلة كانت اقرب الى العقيدة الدفاعية منها الى العقيدة الهجومية او تلك التي تسعى للهيمنة وتقاسم رقعة الشطرنج الدولية , فقد كان الخوف من المتربصين بالدولة الناشئة , ومحاولات تشويه صورة روسيا والتدخل في شؤونها الداخلية , الشغل الشاغل للقادة العسكريين والسياسيين الروس , فمن جهة ما ( كان واضحا ان هناك حاجة الى لتعزيز الأمن عل الحدود الجنوبية لروسيا مع أسيا الوسطى والصين , ومن جهة أخرى , كان الجيش الروسي ما يزال يعتبر حلف الناتو تهديدا , ويستلزم بناء على ذلك تقوية القواعد الغربية والاحتفاظ بقدرتها النووية ) 0
وفي هذا السياق يقول ليونيد إيفاشوف - رئيس إدارة العلاقات الدولية في وزارة الدفاع الروسية والذي استضافته قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 4 / 4 / 2001 م , ( أولاً: يمثل الناتو حلفاً عسكرياً يملك مقدرة عسكرية هائلة ، حلفاً اغتصب لنفسه حق القيام بالعدوان ضد دولة مستقلة ، وعندما يقولون إن هذه الآلة العسكرية سوف تتحرك في اتجاه روسيا لأنها تحمل إلى روسيا الاستقرار والأمن، فنحن لا نصدق هذه الأقوال، كما لن تصدقها أي دولة أخرى ونحن نرى أن نصل الناتو ممدود في اتجاه الشرق ، في اتجاهنا نحن ، فلذا لا نتقبل انتشار الناتو نحو الشرق ، ونعتبر هذا التوسع باتجاهنا تهديداً لأمننا وهذا مسجل في  العقيدة العسكرية الروسية )
         * مرحلة بناء الدولة القومية العابرة للقارات " عقيدة فرض الاحترام " ( 2005 – 2009 ) , وبالتالي فان العقيدة العسكرية الروسية في هذه المرحلة لابد وان تنبع من هذا التوجه الجيوسياسي العالمي , والذي يقوم على بناء وتأسيس جيش قوي وقدرات عسكرية دفاعية وهجومية إستراتيجية قادرة على مواجهة جل تلك التحديدات والتهديدات الجديدة النابعة من الخارج تحديدا خلال الحقبة الزمنية الجديدة , والتي تدفع بالعالم السياسي نحو تبني عددا من الأفكار والتوجهات الجيوسياسية الاستثنائية , التي تلت مرور العالم بعدد من الحروب والصراعات الدولية 0
وهنا نطرح الأسئلة نفسها التي طرحها الجنرال محمود غارييف رئيس أكاديمية العلوم العسكرية الروسية حول طبيعة العقيدة العسكرية الروسية الثانية , في لقاء معه أجراه المعلق العسكري لوكالة RIA – نوفوستي الروسية  فيكتور ليتوفكين في شهر فبراير / 2007م , حول طبيعة التهديدات التي تجثم اليوم على أمن روسيا وما هي المهام الدفاعية التي تنتج عنها؟ ومنها تحديد التنظيم العسكري – العقيدة العسكرية – التي تحتاجها الدولة لتحييد التهديدات الممكنة وصدها عند اللزوم , والوسائل الممكنة للجوء إلى القوات المسلحة والفرق الأخرى ، وكذلك أنماط الحرب والنزاعات المسلحة التي ربما تفرض علينا اليوم وحتى العام 2015م ,  من هنا تولد توجهات التحضير والتأهيل العسكري , وبالأخص ، علينا – كما يقول غارييف- أن نعرف كيف نحضّر البلاد للدفاع بشكلٍ عام ، وقبل كل شيء على المستويات الاقتصادية والعسكرية الصناعية والسياسية المعنوية 0
فما هي طبيعة التهديدات التي واجهتها روسيا , أو تلك المحتمل مواجهتها خلال المرحلة الثانية ؟ ومنها يمكن تبني الروية الجديدة للعقيدة الروسية العسكرية الثانية ( 2005 – 2009 ) ؟
والحقيقة ان روسيا بوتين خلال الفترة الرئاسية الثانية 2004 – 2007 م , واجهت العديد من التحديدات الجيوسياسية العالمية , كان أخطرها على الإطلاق التهميش المتزايد من قبل الدول الغربية وتحديدا الولايات المتحدة الاميركية للدولة الروسية , وبالطبع فلا يزال مستمرا ذلك التهديد الذي يمثله حلف الناتو على الأطراف الغربية لروسيا , والمحاولات المستمرة لتوسيعه ليشمل بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق , كما لا يجب ان ننسى التدخلات المتزايدة في الشأن الروسي الداخلي والسعي لتسليح بعض الدول السوفيتية المتمردة على روسيا كجورجيا على سبيل المثال لا الحصر , والذي أسفر " نفخها " عن انفجار الحرب الروسية – الجورجية مع نهاية العام 2008م 0
بدت روسيا خلال تلك الفترة كما تقول الباحثة الروسية ليليا شيفتسوفا – مؤلفة كتاب روسيا بوتين - وكأنها تريد ( ان تثبت افتراقها عن الغرب وبأنها تزداد انزعاجا وخيبة أمل من شركائها الغربيين : من الهيمنة الاميركية وفي نفس الوقت التجاهل الاميركي لروسيا , ومن رغبة الأوربيين في تعليم روسيا الديموقراطية والسلوك الحسن في الشيشان ) , وهو ما دفع الرئيس بوتين ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي الى إطلاق تهديده المشهور باستعداد روسيا لمواجهة الولايات المتحدة الاميركية في حال لزم الأمر , وذلك بسبب غطرستها وتجاهلها للدولة الروسية ومصالحها الجيوسياسية والجيواستراتيجية العالمية , وإصرارها على بناء منظومة الدرع الصاروخي الاميركي في شرق أوربا , والذي تنظر إليه روسيا كتهديد مباشر لأمنها القومي , وتوسيع حلف الناتو ليقترب من حدود روسيا وذلك بضم كل من أوكرانيا وجورجيا 0
وفي ذلك الخطاب جدد بوتين رغبته في إعادة أمجاد الروس السابقة على عهد الاتحاد السوفيتي , واستعادة القوة الروسية الاستراتيجية والدول القومية العابرة للقارات 0 حيث حفظ العالم جملة بوتين الشهيرة وهي أن العالم يجب أن يستعد للتعامل مع روسيا قوية , وقال كذلك : إن انهيار الاتحاد السوفيتي قد شكل أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين وتذكر بحنين العالم الثنائي القطب القديم , حيث كانت هناك قوتان عظميان تكبح كل منهما طموحات الأخرى , وهو بذلك لا يعني فقط استرجاع جبروت روسيا المفقود , وإنما أيضا جعل بلاده الثقل الموازن الأساسي في مقابل القوة الأميركية , بحسب تعبير سيرغي كاراغانوف مستشار السياسة الخارجية في الكرملين .
لذا فقد تشكلت العقيدة العسكرية الروسية الثانية ( 2005 – 2009 ) بناء على العوامل الجيوسياسية سالفة الذكر , وبالتالي فقد كانت التوجهات الاستراتيجية لتلك العقيدة اقرب ما تكون للاستنفار والمواجهة مع الغرب منها الى الموقف الدفاعي المتفرج , ومن أهم ما يمكن ان يشار إليه في هذا السياق , الإجراءات التالية : تجهيز القوات الروسية بالعتاد الاستراتيجي القادر على مواجهة التهديدات العابرة للقارات وعلى رأسها الأسلحة النووية , والوقوف بحزم وقوة لمختلف محاولات التمرد والعصيان والانتهاك لسيادة الدولة الروسية او تلك الدويلات التي تستظل بجناح روسيا كما حدث مع جورجيا , والوقوف بنفس الجدية والحزم لمحاولات توسع حلف الناتو , بل واستخدام القوة اللازمة لفعل ذلك ان اقتضى الأمر , والسعي لتشكيل تحالفات عسكرية وان كانت فضفاضة مع قوى دولية تتشارك معها مخاوف المساعي الاميريكية للهيمنة على رقعة الشطرنج الدولية والاوراسية تحديدا كما هو الحال مع الصين 0
- وباختصار شديد – يمكننا اعتبار العقيدة العسكرية الروسية الثانية ( 2005 – 2009 ) – أي -  عقيدة " فرض الاحترام " هي عقيدة مواجهة وهجوم واستفزاز للغرب , وتحديدا الولايات المتحدة الاميركية , وذلك في محاولة من قبل بوتين لإظهار المكانة القوية التي وصلت إليها وتملكها روسيا الجديدة اليوم , وبالتالي التأكيد على رفض أي املاءات او تدخلات خارجية في الشأن الروسي , او حتى التفكير في سلب الروس لحقوقهم التاريخية القديمة , ولمزيد من المعرفة حول تلك التحولات والتغيرات التي تشكلت حولها العقيدة العسكرية الروسية سالفة الذكر , ننصح بالرجوع للمراجع التالية على سبيل المثال لا الحصر – الفصل الثالث من كتابنا المفاجأة الروسية , وكتاب رقعة الشطرنج الكبرى لزبجينيو بريجينيسكي وكتاب روسيا بوتين لليليا شيفتسوفا0  
         * مرحلة تأكيد المكانة العالمية " عقيدة التوازن الاستراتيجي " , وهي العقيدة الثالثة التي تتبناها روسيا في تاريخها الحديث , وسيبدأ تطبيقها عمليا منذ ( 2011 – 2015 ) , وعن هذه العقيدة الجديدة التي أعلن عنها سكرتير مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف يوم الخميس الموافق 19 / 11 / 2009 م ,  في مدينة سانت بطرسبورغ , والتي ستقدم لرئيس الدولة قبل نهاية العام 2009م , يقول المحلل والسياسي الروسي المعروف ليونيد ألكسندروفتش بان ( العقيدة  العسكرية الروسية الجديدة لم تأت من فراغ بل جاءت رد فعل على إستراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلن عنها مؤخرا والتي استبعدت روسيا من قائمة حلفاء وأصدقاء أميركا في حربها ضد الإرهاب ، على الرغم من أن روسيا كانت ضمن هذه القائمة في إستراتيجية عام 2002، لقد تعاملت الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي مع روسيا بشكل سلبي ووضعتها ضمن الدول التي لا تطبق المعايير الديمقراطية الصحيحة واتهمتها بالتدخل في شؤون جيرانها ودعم أنظمة مارقة ومتطرفة مثل نظام الرئيس هوجو شافيز في فنزويلا ) 0
والحقيقة إننا نستطيع ان نقول بأنه وبالإضافة الى تبني مختلف الأفكار التي كانت حاضرة في الاستراتيجية العسكرية الروسية الثانية  ( 2005 – 2009 ) , فان هذه الأخيرة قد تبنت بعض الخيارات الاستراتيجية العسكرية الاستثنائية كخيار إقدام روسيا على توجيه ضربات نووية استباقية , وإمكانية استخدام القوات العسكرية الروسية خارج الدولة , وتوسيع المناطق الحدودية لروسيا من مسافة خمسة كيلومترات إلى خمس عشرة كيلومتر وخاصة في الجهات الغربية لروسيا ، وبهذا تعود المنطقة الحدودية الروسية إلى ما كانت عليه في زمن الاتحاد السوفييتي ، وقد أحدث هذا القرار ردود فعل قوية لدى واشنطن ولدى دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا , ويدور النقاش أيضا حول البند الذي يجيز استخدام الأسلحة النووية في النزاعات المحلية في حالة وجود تهديد بالغ الخطورة على الأمن القومي الروسي 0
وفي هذا السياق كتب إيليا كرامنيك ، المعلق العسكري لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء حول نوعية تلك النزاعات التي تمثل تهديدا بالغ الخطورة للأمن القومي الروسي؟ وعلى أساسها فقد تم تبني العقيدة العسكرية الاستراتيجية الروسية الثالثة التحليل التالي :-
( بإلقاء نظرة إلى جيران روسيا في الساحة السوفيتية سابقا قد نستطيع أن نتخيل نشوب نزاع مع جمهوريات البلطيق السوفيتية سابقا لأنها أصبحت أعضاء في حلف شمال الأطلسي ، غير أن احتمال نشوب مثل هذا النزاع ضئيل جدا ,  وإذا افترضنا أن يندلع نزاع بين روسيا وهذه الجمهوريات فلن نستطيع أن نتخيل أن تستخدم روسيا السلاح النووي في ضرب هدف ما في أراضي بلدان الجوار القريب , وبالتالي فإن أهداف السلاح النووي الروسي في الحرب الافتراضية ستكون - على الأرجح - خارج منطقة البلطيق , والأغلب ظنا أنه لا يمكن إلا لحرب واسعة النطاق أن تمثل تهديدا حرجا لأمن روسيا يستوجب اللجوء إلى استعمال السلاح النووي دفاعا عن الذات، علما بأنه بعدما شن الناتو عمليته الحربية على يوغوسلافيا استقر رأي روسيا على أنها لن تقدر على صد عدوان محتمل يأتي من الغرب إلا عندما تستخدم السلاح النووي )
و- باختصار – فان العقيدة العسكرية الاستراتيجية الروسية الثالثة ( 2011 – 2015 ) , وبالإضافة الى تبنيها لجل تلك الأفكار والأطروحات العسكرية الدفاعية والهجومية الاستراتيجية منذ العام 2000م , قد تم هذه المرة إضافة معايير استثنائية عليها تراعي في الحسبان تلك التطورات العقائدية العسكرية للدول الأخرى كالولايات المتحدة الاميركية على سبيل المثال , والتي لا تستبعد إمكانية القيام بالسبق في توجيه الضربة النووية الأولى عند الضرورة , وهو ما قصدناه تحديدا بعقيدة " التوازن الاستراتيجي " , كذلك ومما يجب التأكيد عليه في هذه العقيدة الجديدة , تجديد القيادة الروسية على تلك الرسائل القوية التي تفيد إعادة التأكيد على مكانة روسيا الجيوسياسية والجيواستراتيجية في العقد القادم من القرن الحادي والعشرين على رقعة الشطرنج الدولية , كذلك ومن ضمن ما يمكن الإشارة إليه في هذا التوجه العسكري الجديد , هو إضافة عامل الترهيب وزرع روح الخوف في نفوس أعداءها التقليديين والمتمردين على نفوذها التاريخي , وهو ما يستدعي التفكير كثيرا قبل التعرض لأمنها القومي ومصالحها الدولية للتهديد والخطر
أ. محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

الخميس، 2 سبتمبر 2010

مفاوضون حائرون وأعداءٌ واثقون ووسطاء منحازون ......... بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

جولةُ مفاوضاتٍ جديدة ستشهدها العاصمة الأمريكية واشنطن خلال الأيام القليلة القادمة، بمشاركة وحضور ومباركة قادةٍ وزعماءٍ عرب، إلى جانب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذين سيعملون معاً على توريط رئيس السلطة الفلسطينية أكثر ما هو متورط، وسيدفعونه نحو تقديم المزيد من التنازلات لصالح العدو الإسرائيلي، إذ من المقرر أن تعقد جولة المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في مكانٍ ما في واشنطن، وسيترأس الوفدين كلٌ من رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس الحكومة الإسرائيلية، الذين تسابقا في إعلان مواقفهما قبل الشروع في هذه الجولة، وستنظم هذه الجولة الجديدة من المفاوضات المباشرة إلى أخواتها السابقات من الجولات التي عقدت برعاية الإدارة الأمريكية في واشنطن وكامب ديفيد وأنابوليس، والتي لم يتحقق منها شئ، ولم تنجح أيها في التوصل إلى أي نتيجة ترضي الفلسطينيين، وتحقق رغباتهم، وتقيم لهم دولة، ولم تستجب إلى أيٍ من مطالبهم العادلة والمشروعة، كما لم تحقق الرؤية الأمريكية التي ورثتها الإدارة الأمريكية وتمسكت بها، بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة.

المشاركون في مفاوضات واشنطن المباشرة ثلاثة أطراف، الراعي الأمريكي والمشجعون العرب، الذين سيمارسون دورهم المعهود في تسيير المفاوضات واستضافتها، وتذليل العقبات واجتراح الحلول، وتشجيع الطرفين الآخرين على الجلوس معاً على طاولة المفاوضات والحوار المباشر، وهو ذات الدور الذي دأبوا على لعبه منذ سنوات، ولكن دورهم في تسيير المفاوضات، وإزالة العقبات، ليس نزيهاً، ولا يتصف بالمصداقية التي ينبغي على الوسطاء أن يتحلوا بها، إذ يتمثل في ممارسة المزيد من الضغط على الوفد الفلسطيني فقط، ليدفعوه نحو تقديم المزيد من التنازلات والقبول بالشروط والمواقف الإسرائيلية، وعدم فرض شروط جديدة، أو وضع عقبات أمام عجلة السلام، في الوقت الذي يعجزون فيه جميعاً عن فرض أي شروط على الجانب الإسرائيلي، ويترددون في الطلب منه التراجع عن بعض الإجراءات الحكومية التي عقدت عملية التفاوض، وجعلت من اللقاء المباشر أمراً صعباً، وهدفاً صعب المنال، وأصبح غاية ما يتمنونه من الحكومة الإسرائيلية هو التفرغ لعدة أيامٍ في مكانٍ ما في واشنطن، لذر الرماد في عيون العرب والفلسطينيين، لتبدو أمام الرأي العام الدولي بأنها جادة في سعيها للسلام مع الفلسطينيين، ولتظهر الإدارة الأمريكية أنها جادة في رعايتها للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وأنها جادة في تحقيق رؤيتها بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية.

أما الطرف الثاني على طاولة المفاوضات فهو الجانب الإسرائيلي، الذي سيصل إلى واشنطن وهو واثق من مواقفه، ويعرف ماذا يريد من جولة الحوار المباشرة، ويدرك الغاية والهدف من هذه الرحلة التي سيقطع مسافتها الطويلة رئيس الحكومة الإسرائيلية ومستشاروه المفاوضون، الذين يعرفون تفاصيل كل قضية، ويعرفون دقائق كل مسألة، ويحملون معهم أجندة المفاوضات التي لن تنتهي، فهم يريدون مفاوضاتٍ مارثونية، لا تؤدي إلى أي نتيجة، ولا تقود إلى أي حل، ويتطلعون فقط إلى صورةٍ تجمعهم مع رئيس السلطة الفلسطينية إلى جانب الرئيس الأمريكي وبعض الرؤوساء العرب، لتبدو إسرائيل أمام الرأي العام العالمي بغير صورتها الحقيقية البشعة، التي كشفت عنها ممارساتها العديدة، وآخرها هجومها الدموي على قافلة الحرية، فمرادهم صورة جميلة لدولتهم، وتمسكٌ واضح وحاسم وقاطع بثوابتهم، التي يرونها حقاً لهم، لا ينازعهم أحدٌ عليها، ولا يقاسمهم بها أحد، فلا لدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، ولا انسحاب إلى حدود الرابع من حزيران، ولا لتقسيم مدينة القدس، ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ولا لحرية الأسرى والمعتقلين، ولا توزيع عادل للمياه بين الأطراف، ولا سيادة للفلسطينيين على أرضهم، ولا سيطرة لهم على معابرهم، ولا سلطة لهم على مياههم الإقليمية، ومجالهم الجوي، ولكن مفاوضاتٌ ولقاءات تغطي الأنشطة الاستيطانية، وتجمل الإجراءات التعسفية الإسرائيلية، وتدفع بالسلطة الفلسطينية للاعتراف بهودية الدولة العبرية، بعد أن سبقت بالاعتراف بشرعية الدولة الإسرائيلية.

أما الطرف الفلسطيني فهو الطرف الأضعف والأقل حيلة، رغم أنه بحقه وثوابته كان ينبغي أن يكون الطرف الأقوى، فلو أنه ركن إلى مقاومة شعبه، وخيارات الصمود التي أبدتها الأمة تضامناً مع القضية الفلسطينية، لما استطاعت الحكومات الإسرائيلية أن تتمادى في غيها وعدوانها، ولكن الطرف الفلسطيني المفاوض، الذي أعلن تخليه عن كثيرٍ من الثوابت، وأبدى استعداده للتنازل عن كثيرٍ من الحقوق، وانبرى للدفاع عن الحكومة الإسرائيلية، لتحسين صورتها، وإعادة البريق الذي فقدته بسبب سياساتها، وخضع للشروط والإملاءات الأمريكية، وقدم فروض الطاعة للإدارة الأمريكية التي تراجعت عن مواقفها ووعودها، الأمر الذي جعل من الطرف الفلسطيني المفاوض أداةً طيعة في يد الإدارة الأمريكية، وقبل أن يكون خرقة القماش البالية التي تمسح بها الحكومة الإسرائيلية ما شاب صورتها من قذى، وما علق بها من قذارة، ليفقد بذلك المفاوض الفلسطيني احترام شعبه، وتقدير أهله، وينزلق أكثر في حمأة الانقسام والفرقة والاختلاف، فكان بجدارةٍ هو الطرف الحائر التائه الضائع الذي لا يعرف ماذا يريد، ولا ماذا سيحقق من هذه المفاوضات، فهو بسعيه للحصول على بعض الفتات من العدو الإسرائيلي على طاولة المفاوضات، أوقع شعبه وأهله في دائرة الخلاف والخصومة، فحاله أشبه بالغراب الذي عندما حاول أن يقلد مشية الآخرين فنسي مشيته، فلا هو نجح في تقليد الآخرين، ولا هو استطاع أن يعود إلى طبيعته.

الحقيقة المرجوة من المفاوضات المباشرة، أن الإسرائيليين يبحثون عن هدنةٍ مع المجتمع الدولي، وعن صورةٍ زائفة مع السلطة الفلسطينية، وإشاعة كاذبة بحرصهم على السلام، ليتمكنوا من تنفيذ المزيد من أحلامهم، بتهويد مدينة القدس، وطرد أهلها، وسحب الهوية المقدسية من سكانها، ومصادرة المزيد من أراضي الضفة الغربية، لبناء المزيد من المستوطنات عليها، وتوسيع المشاد فيها، والسيطرة على المياه الجوفية في الضفة الغربية، بينما الجانب الفلسطيني سادرٌ ضائع وحائر، لا يعرف ماذا يريد، ولا إلى أين يؤدي هذا المسار، بل ينكر أن يعترف بحقائق مسار المفاوضات مع العدو الإسرائيلي، أنه مسار التيه، ودرب الضياع، وطريق الخسارة، لا نجاة لسالكه، ولا فوز لعابره، ولا غاية مرجوة من المؤمنين به، والمعتمدين عليه.
د. مصطفى يوسف اللداوي

أزمات دراماتيكية ولا حلول تلوح في الأفق ..... بقلم عصام الياسري

ما سبيل تناول المشهد السياسي العراقي وسط أزمات دراماتيكية يعج بها البلد والمجتمع، وأي من القضايا على المرء أن يمسك لمعالجة الوضع؟. ومن ذا الذي يحسن القول والعمل وها هي ستة شهور عجاف تمر على العراق والعراقيين دون أن تثمر الانتخابات الأخيرة عن تشكيل رافعة سياسية تنتج حكومة مركزية قوية لا تساوم على حساب مصالح الأمة ووحدة الوطن وتقود لتغيير الأوضاع وانهاء الأزمات بطريقة الزامية حضارية مسئولة. ان المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العراقية لا تعد ولا تحصي، معالجتها ووضع الحلول لا تتحقق الا في ظل وجود المؤسسة "التشريعية والقانونية" الفعلية ورعاية " الدولة الحصرية". وتكشف الأحداث بأن تسلط القوى الطائفية والأحزاب العقائدية والشوفينية بما ينسجم ومصالحها، هو السبب الأساس في تأزم الوضع. لقد نكث هؤلاء القوم الذين لا يفقهون في السياسة كما في الدين عن كاهلهم أبسط القيّم، ولم يبق من أخلاقياتهم أي شيء سوى العمل على بسط نفوذهم دون الالتفات الى أوضاع العامة من الناس، وباتوا عاجزين عن اصلاح ما خرب الغزو الأمريكي في العراق. فالأمن يسير نحو الهاوية والرعاية الصحية والمعاشية في أسوأ حال، الاعمار والماء والكهرباء معدوماً، فيما أصبح الاقتصاد الوطني عرضة للنهب، والقتل والارهاب على أيدي مليشيات مسلحة بعضها تابع لأحزاب السلطة تفاقم وبات يشكل خطراً على حياة المواطنين. وأصبح ظرف العراق الصعب عاملاً لممارسة الابتزاز الطائفي والقومي والتهديد برفع سقف المطالب بهدف الحصول على غنائم جيوديموغرافية وسياسية ومادية لا حصر لها بسبب العجز السياسي وعدم وجود حكومة مركزية قوية.


وعلى الرغم من مرور فترة قياسية تجاوزت السبع سنوات على احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، لم يتغيّر المشهد السياسي قيد أنملة ولم يطرأ أي تحسن ملحوظ على كل المستويات، ولا زال الوضع على كافة الصعد أكثر تعقيداً والصراع بين جميع الأطراف محتدماً. ومضت ستة شهور على الانتخابات البرلمانية الأخيرة دون أن يلوح في الأفق أمل الوصول لتشكيل حكومة ترتقي بمستوي مسؤولياتها الوطنية. وتعدت الأزمة السياسية مساحة الاستثناء الطارئ وتعكرت أجواء الحوار بين أطراف ما يسمي بالعملية السياسية وأصبح أكثر غموضاً. والمشكل أن السياسيين العراقيين على مختلف مشاربهم لا يتنافسون لأجل بناء الدولة وتطوير مؤسساتها وتحسين الاقتصاد وأوضاع الناس المعاشية والاجتماعية، انما يتصارعون من أجل الاستحواذ على السلطة وتوزيع المناصب بهدف النهب والسرقة والاعتداء على أملاك الدولة والكسب بطرق غير مشروعة. كما أن التشهير والاتهامات المتبادلة أصبحت العتبة التي يستقر اليها جميع السياسيين، وبات العراقيون في حيرة من أمرهم لا يهدأ لهم جنب غير الوعود الكاذبة.. والسؤال الذي يتطلب الاجابة هو: من سيحصد ثمار المرحلة القادمة ويحسم أمر السياسة لصالحه؟. وهل يستطيع الشعب أن ينتفض ليصلح ما لا يليق بشأنه ومصالحه لينهي ما أفسده دخلاء السياسة من جهلة وسراق ومنافقون.


لقد كشفت الانتخابات الأخيرة الكثير من العيوب وأفرزت حقائق تقتص من ادعاء السياسيين العراقيين الجدد على أنهم يريدون رفع شأن العراق وبناء الديمقراطية وسعادة المجتمع. ان اعلان أسماء النواب كما أسس له العرف الطائفي لا القانوني واعتبارهم أعضاء في المجلس على الرغم من أن الكثيرين منهم لم يحصلوا على مئة صوت من مجموع 12 مليون ناخب عراقي، فيما أن شخصيات معروفة سقطت ولم تحصل على عشرة أصوات لكنهم دخلوا قبة البرلمان ليمثلوا العراقيين دون تفويض منهم، ظاهرة خطيرة تكشف عن طبيعة فهم هؤلاء الساسة للديمقراطية كما تدل على عدم احترامهم للقانون والدستور الذي وضعوه بأنفسهم دون استفتاء شعبي يخضع لآليات حيادية معترف بها دولياً.


ومنذ غزو العراق عام 2003 ومؤسسات الدولة الرئيسية " التشريعية والتنفيذية " أي الحكومة والبرلمان تخضع لتجاذبات اقليمية أدت الى تأزم الوضع وافراز مجموعات تحركها قوى خارجية تسيطر على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. وبات المواطن يشعر بعدم الطمأنينة على حياته ونمو مستقبله، فيما أضحت ظاهرة نهب خيرات البلد والاثراء على حساب قوت الفقراء والكادحين أو بناء الدولة واعمارها واقع حال لا يستطيع القانون النيل منها بسبب المساومات والابتزاز الطائفي. وبسبب المحسوبية وشراء الذمم وصل الكثير من الجهلة والانتهازيين والمنافقين الى موقع المسؤولية، الأمر الذي انجر عليه تراكم الأخطاء وتأثير مخاطرها على مستقبل المشروع الوطني برمته. ان عدم بلورة حلول اجتماعية وسياسية هادفة وايجاد موازنة اقتصادية وانمائية منتظمة تهدف الى احتواء الأزمة التي أفرزتها الانتخابات وما قبلها، أدت الى اجهاض أي تحول نحو الأمن الاجتماعي والوفاق الوطني وبالتالي نحو البناء والاعمار وتقدم المجتمع. ولم تكتف الأطراف الكردية "بيضة القبطان" بالمزيد من الابتزاز ورفع سقف مطالبها فبالاضافة الى سعيها لاعمار المناطق الكردستانية على حساب المدن العراقية الجنوبية والوسطي، وامتلاكها شرطة وجيش نظامي لا للحكومة المركزية أي سيطرة عليهما، واستخراجها النفط في شمال البلاد والقيام ببيعه وتصديره دون موافقة الجهات المركزية المختصة، وعقدها الاتفاقيات وبناء علاقات دبلوماسية مع دول أجنبية المفروض أن لا تبرم الا باتفاق هذه الدول مع الحكومة المركزية حصراً. وسيطرتها على مدن وأراضٍ خارج حدودها وعدم السماح لأي مواطن غير كردي التنقل في المناطق الشمالية الا بالحصول على اذن خاص "فيزة" ونهب الموارد العراقية وتحويلها على حساب قادة الأحزاب والعشائر. فانها تمارس ضغوطاً اتجهت في أكثر من مرة الى التهديد بالانفصال وضم مدن عراقية بالقوة. الا أن المواطن الكردي يدرك بأن القيادات الكردية الحاكمة في شمال العراق لا تختلف في سلوكها وأطماعها عن سلوك المتنفذين في المناطق العربية أو أعضاء ما يسمي بالحكومة والبرلمان الاتحادي الذي حصل الكرد على نسبة 17% من المقاعد فيه.


والعراق بسبب الاختناق السياسي بات أسير الصراعات العرقية والطائفية التي لا تخدم الا مصالح الأطراف المتصارعة لأجل مكاسب فئوية ضيقة، فالطبقة السياسية التي تحكم البلاد لا شأن لها على الاطلاق بمصلحة العراق والمواطنين ففي الوقت الذي تتجاوز دول الجوار تركيا وايران والكويت باستمرار على حرمة الأراضي العراقية وتعتدي على حقوقه المائية، يعتكف الساسة العراقيون من العرب السنة والشيعة وغيرهم الصمت ويتصارعون على الغنائم كما يساومون على مصالح بلدهم ويقدمون التنازلات تلو الأخرى، فقط لأجل البقاء في السلطة والتمتع بالامتيازات السياسية والمادية على حساب مستقبل العراق ومصير شعبه.


ويبدو أن الأمريكيين الذين ارتكبوا خطئاً في احتلال العراق وتدميره تدميراً شاملاً لا مثيل له في التاريخ المعاصر. خربوا مؤسساته وبنيته التحتية وفتكوا بالبيئة والعقل العراقي ونهبوا تراثه الحضاري وأسقطوا ثقافته ورموزها. قد ارتكبوا اليوم بحماقتهم خطئاً جديداً عندما بدءوا بسحب أغلب قواتهم العسكرية من العراق واستبدالها بقوات مرتزقة يعرف عنها الكثير من القساوة والابادة والقتل. الأمر الذي سيجعل الصراع بين الأطراف السياسية العراقية مفتوحاً باتجاه التمرد ووقوع سلسلة من الحروب الطائفية والشوفينية الطاحنة، بسبب ضيق الأفق القومي والديني والخوف على مكتسبات حصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام. وأظن بأن الاحتلال والقوى العراقية التي عقدت الاتفاق والذهاب معه لأبعد الحدود لقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق، قد قصدوا بالأساس الفكر والثقافة وتعمدوا خراب عاصمة العلم والحضارة بغداد وابقائها دون اصلاح حاضنة للقمامة والنفايات لانهاء دورها السياسي في التحدي لمواجهة التخلف والخراب والذود عن مصالح الأمة. واذا كان هدف مخطط الانسحاب العسكري الأمريكي الجزئي من العراق لتغيير المشهد السياسي سايكولوجياً، واعطاء الرأي العام الداخلي انطباعا بأن سياسة التخويف والتخوين والاقصاء تحت طائلة الاتهام بالانتماء للبعث أو القاعدة والارهاب لمن يعارض الطائفية والاحتلال ستنتهي، وأنه سيكون سبباً موضوعياً للذهاب نحو بناء الدولة العصرية ومؤسساتها. فلا بُد الاقرار بالحقيقة: بأن احتلال العراق قد كلف الأمريكان الكثير وأنهم عجزوا عن تحقيق مشروعهم وتأمين مصالحهم في المنطقة. وان العراق سوف لن يتمتع بحكومة مركزية قوية من طراز جيد الا عندما يكون لديه قوات جيش وشرطة بعيدة عن المحاصصة الطائفية وقادرة على تعزيز الأمن في جميع أنحاء العراق واعادة النظر بالدستور والقوانين والاتفاقيات التي صدرت بطريقة غير شرعية وبالتعارض مع مصالح العراقيين وطموحاتهم.

عصام الياسري