السبت، 9 أكتوبر 2010

الإنتلجنسيا العربية ( نضال في ناطحات السحاب )


يبدوا أن الطريق لا زال طويلا وشاقا جدا قبل أن يتمكن حملة الأقلام العربية من تحديد هويتهم الثقافية , ومرجعيتهم الفكرية من وراء هذا الكم الهائل من الكتابات الخرساء الصامتة , فلا أتصور أن فكرا سائدا يساير التيار يستطيع أن يقيم حوارا مسموعا , تختزل فيه هموم الشارع الإسلامي والعربي , ودموع الفقراء وأنين الضعفاء وآلام البؤساء , وأن يحقق المراد من وراء وجوده الثقافي والأدبي في أي أمة , وهو خدمتها , ورفع شانها الحضاري , والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من أبناءها , ففكر من ذلك النوع الصامت لا يمكن أن يصل مداه إلى مساحة أبعد من قدم صاحبه .
         ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا دلائل كثيرة على أن الأمم والشعوب التي يصمت مثقفيها طويلا ليتكلم ساستها كثيرا تترهل سريعا لتتلاشى مع الوقت , بينما تعكس ثورة الأقلام هوية الأمة , ومدى وعي أبناءها وقدرتهم على الاستمرار والبقاء , فقدرة مثقفيها على تحقيق ذلك الحوار المسموع والمتوازن مع السياسة , هو وحده الكفيل بخلق تلك المعادلة التاريخية والحضارية المفقودة بين الثورة الثقافية والنضال السياسي الإنساني 0
         فلماذا عجز المثقفون العرب بعد كل هذه السنين الطويلة من الكتابات التي أمتلئت بها المكتبات العربية , من تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي ؟ بينما نجح المثقفون في الدول الغربية من تحقيق تلك المعادلة الفكرية التي لا تنفصل فيها هندسة المعاني الثقافية عن المعادلات السياسية ؟ ولماذا لم يتمكن المثقف العربي بالرغم من وصول صوته إلى مسافات بعيدة من تهيئة البيئة الفكرية المناسبة للحوار السياسي مع السلطة والحكومة ؟
         بينما استطاع المثقف الغربي من تخطي تلك العقبة ليكون هو نفسه جزء رئيسيا لذلك الحراك السياسي الوطني , وملهما لتلك الثورات الفكرية والسياسية التاريخية التي غيرت مسيرة الأمم والشعوب الأوربية على سبيل المثال لا الحصر ؟
         والحقيقة أن هناك العديد من الإشكاليات والعقبات التي يمكن أن نطلق عليها بالبيئة المعطلة لخلق جيل من المثقفين العرب , تتوفر لديهم القدرات الثقافية والسياسية الوطنية والقومية , والتي وجدنا – من وجهة نظرنا – أنها من ابرز الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع التاريخي والتدهور الحضاري والانحطاط الثقافي والفكري لدور المثقف العربي في صناعة النضال السياسي اليومي , وهي :   
         1 -  فقدان الدفء الوطني : ونحن حين نتحدث عن ذلك الدفء الوطني فإننا نقصد به ذلك الإحساس الذي يجب أن يناله الأديب والمثقف والفنان في وطنه , - أي – الشعور بالحب والتقدير والاحترام والثناء , الذي يدفع الفكر إلى الأمام , ويحرض النفوس على البذل والعطاء والاجتهاد , لا الإحساس بالتهميش واللامبالاة , أو كما يقال " لا كرامة لنبي في وطنه " كما هو حاصل اليوم في الكثير من البلدان العربية – وللأسف الشديد – فلا تقدير ولا رعاية للبعض من الأقلام الشريفة المخلصة إلا بعد موتها , في حين لا يجد الآخرين أي تكريم لا في حياتهم ولا بعد مماتهم , في وقت نجد فيه الكثير من أقلام السلطة والحكومة وتجار الكلمة الماجنة والصحافة الصفراء والأقلام الارتزاقية والمتاجرين بشرف الكلمة يرفلون في النعيم المقيم 0
         2 -  فقدان الفعل الثقافي : حيث لم يتحول بعد القول الثقافي لدى المثقف العربي إلى فعل ثقافي ونضال يومي ملموس ومحسوس , ولم يتجاوز المثقف العربي بعد بأفكاره وكلماته الأوراق ليصل إلى هموم الشارع وقضاياه , فثقافة الثرثرة العاطلة لازالت مسيطرة وسائدة في زمن المهرجين والمتسلقين والمتفيهقين من أصحاب الأقلام , فللأسف الشديد لقد ( ثرثرنا أكثر مما كتبنا , وكتبنا أكثر مما فعلنا ) , ولذلك لم و لن نستطيع أن نخطو بعيدا بهذه الأقدام المترهلة , حتى ونحن نسير تحت الظلال الوارفة , خائفين من حرارة الشمس الحارقة , ننظر إلى الشارع من ناطحات السحاب والأدوار العلوية 0
         إذا فالمطلوب من المثقف العربي اليوم لكي ينجح في تخطي هذه العقبة , هو النزول إلى الشارع المهمل والدخول إلى بيوت الطين وسعف النخيل , المطلوب منه الاهتمام بقضايا الضعفاء والبؤساء والفقراء والمظلومين , حينها فقط سيستطيع التقريب ما بين البندقية والوردة , وسيشعر ولو بشي من معاناة المجتمع الذي لا زال ينتظر منه تحويل كلماته إلى فعل تتحقق من خلاله الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة الاجتماعية 0
         وباختصار - لابد أن يتحول الشارع الثقافي العربي كله إلى نماذج من النضال العربي الفلسطيني , والى نماذج من الثورة الفلسطينية الأدبية , فالنموذج  الثقافي الفلسطيني هو نموذج نضالي رائع , يستحق الاحترام والتقدير والإجلال , استطاع أن يعطي الشعر والرواية والقصة والمقال وهجا لم يكن ليكسبه لولا حضور الثورة في أعماقه , واستطاع أن يحول تلك الكتابات إلى حجر وبندقية – أي – إلى فعل ثقافي يستحق الاقتداء به 0
         نعم  , نحن لا نستطيع أن ندعي أن إسرائيل قد أصبحت اليوم ابعد عن ذي قبل , ولا نستطيع أن ندعي أن أطنان تلك القصائد والدواوين والكتابات النضالية الرائعة قد حررت بيت المقدس وأحرقت المستعمر الصهيوامريكي في فلسطين والعراق , أو في غيرها من البلدان العربية المستعمرة سياسيا وثقافيا , ولكننا نستطيع أن نؤكد على أن تحرير الشعوب ونيلها لحريتها من خلال أطنان تلك الأوراق سيتحقق لا محالة والتاريخ يؤكد ذلك , ولكن بشرط أن تتحول تلك الأطنان من الكتابات إلى ثورة وجحيم , يصطلي بنارها الظلم والبغي وأعوان الطغيان , ونقول – بأنه وكما وهبت الثورة الإبداع الحقيقي للثقافة في فلسطين على سبيل المثال , فلابد أن تهب الثقافة العربية النضال الحقيقي للثورة في كل أرجاء عالمنا العربي 0
         3 - سلبية النظرة الفكرية : فغالبا ما تدور أغلب تلك الأقلام في دائرة النظرة الضيقة والأبواب المغلقة والمواضيع التي ترتكز على الأفكار والقضايا الاجتماعية والاقتصادية " المحبطة " كالسرقة والفساد والغش واليأس والقنوط وجلد الذات وهكذا , ونحن هنا لا نطالب بإهمال هذا الجانب المهم للغاية , ولكن من المهم كذلك هو التفكير بطريقة ايجابية في زمن اللون الأسود , وذلك بهدف زرع الأمل في النفوس ودفع العقول والأفكار نحو الكفاح والنضال من اجل الحرية والتطلع إلى الأبواب المفتوحة , إذ لابد من خلق توازن في الأفكار ما بين ثقافة الإحباط وجلد الذات وثقافة الأمل في الطرح الفكري , وهل تستطيع الأمم والشعوب أن تعيش على طعام واحد ؟ وإذا عاشت فالي متى ؟  
         4 -  فقدان الأمن الثقافي : فاغلب مثقفينا اليوم يدورون ما بين طاحونة الوظائف الحكومية , ويقضون يومهم في البحث عن لقمة العيش , وبين ما نطلق عليه " بالثقافة الرسمية المحاصرة " وفي كلا الحالتين , لا يمكن أن ينجح الكثير منهم في التخلص من الواجهات الزجاجية الملونة التي يعيشون خلفها , - وللأسف الشديد – حتى ثقافة الجياع هذه لم يستطع مثقفينا استغلالها بالطريقة الصحيحة كما فعل مثقفي أوربا ودول أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة الاميريكية في وقت من الأوقات , فأين الأمن الثقافي الذي يدفع الأقلام والعقول للعطاء والبذل والاجتهاد والنقد البناء ؟ في وقت لا تتمكن فيه العديد من أقلامنا العربية الشريفة المخلصة من الحديث همسا عن أخطاء الحكومات والمسئولين فيها , خوفا على أنفسهم وأسرهم من التنكيل والمعتقلات 0
         نعم 000 يبدو أن سلبية المثقف العربي تجاه " الجوع القائم والجوع القادم " لن تكون اقل من سلبيته تجاه قضايا كثيرة لم يستطع بعد سنوات من الكتابة الصامتة أن يفك طلاسمها كالديمقراطية والحرية والعدالة والوحدة العربية , كما لا يبدوا بان الحكومات العربية ستستطيع أن تتخلص من عقدة خوفها من تلك الأقلام المخلصة والناقدة البناءة لأخطأها , أو حتى أن تقترب وتتقرب من تلك الأقلام لتستفيد منها ومن أفكارها , وهي واحدة من الإشكاليات الرئيسية التي اشرنا إليها بفقدان الحوار الشفاف والبناء ما بين الثقافة والسياسة في عالمنا العربي0
         فالمثقف العربي ( وتحت ظروف الحياة القاسية , يضطر في كثير من الأحيان أن يكتب بعدة لغات وعدة لهجات وعدة ألوان , وهو فيما إذا قابل السلطة يحتار بأي لغة يتكلم , وبأي لهجة يتفاهم , وبأي لون يخاطب , وتضيع الحقيقة , وهو لم يهتدي بعد إلى اللغة واللهجة واللون )0
         5 -  فقدان المرجعية الثقافية : فالمثقف العربي هنا فاقد للوجهة والواجهة الثقافية , فاقد للهوية الوطنية والقومية والحضارية , فلا تكتب النخبة الثقافية في عالمنا العربي بالعربية ولا تتكلم بالعربية , بل تلوي لسانها لتخاطب العامة بتلك المصطلحات والمفاهيم التي لا يفقهها سوى البعض من النخبة الثقافية , وإذا تحدثت بلغة الشارع , فهي كمن يتحدث الى بقايا بشر لا قيمة لهم ولا فائدة منهم , فالبحث عن الهوية القومية والهوية الوطنية لدى أي شعب من الشعوب , يبدأ من البحث عن لغته , فإذا ضاعت اللغة أو غيبت أو فقدت , ضاعت وراءها الأمة بأسرها , و- أي – امة تستطيع أن تدعي استقلالها وهي فاقدة للغتها 0
         كذلك ومما يجب أن يشار إليه هنا , هو فقدان المثقف العربي للنموذج العالمي الحضاري التوجيهي , فبالرغم من الحياة تحت ظلال الإسلام والقران الكريم , إنما – وللأسف الشديد – لم يتمكن المثقف العربي بعد من تأكيد مرجعيته الفكرية الإسلامية تلك , ولا أتصور شخصيا بان أي فكر عالمي آخر غير الثقافة الإسلامية قادر على فتح جميع الشبابيك المغلقة في وجه الشعوب والحضارات , ولو نظرنا إلى أوربا وأمريكا على سبيل المثال لا الحصر واستعرضنا النماذج الثقافية التنموية التي تبنتها , سنجد أنها حققت نتائج مادية كبيرة , ولكنها لم تستطع أن تقدم للإنسان فيها الحل الشامل لمشكلاته الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية 0
         فعندما جردت هذه الثقافة المرجعية للمثقف العربي المسلم من دورها الحضاري كوجه وواجهة للأمة ككل , وللقيادات الثقافية والسياسية على وجه الخصوص , وعندما ( جردت هذه الثقافة من بعدها المعرفي في الوقت الحاضر , وأصبحت مجرد حرفة , وأصبح الإسلام مجرد شعائر وطقوسا لدى البعض , أكثر منه معرفة وتفاعلا مع الحياة , باعتباره جذر الثقافة العربية الضارب 000 حدث هذا الاستلاب , ولم يعد الفرد العربي – ولا المثقف العربي – يدرك إلى أين هو ذاهب !!! ) ولا الى أي وجهة هو موليها !!0  
         إذا فالمثقف العربي اليوم تنتظره حروب كثيرة , ومعارك أكثر شراسة , إذا ما أراد تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي , فحروب المثقفين العرب اليوم هي حروب ومعارك من نوع لا يستخدم فيه رصاص البندقية بقدر ما تستخدم فيها كتابات الحرية والنضال الفكري , ومعارك هي بحاجة إلى تجديد في الدماء بشكل يومي ,  وشهداء للكلمة في سبيل مجتمع جديد , لا تنفصل فيه الثقافة عن السياسة وهندسة المعاني الأدبية عن المعادلات السياسية 0

أ. محمد بن سعيد الفطيسي

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

رؤية الى العقيدة العسكرية الروسية ( 2011 – 2015 )


قبل التطرق الى تحليل إستراتيجية العقيدة العسكرية الروسية الجديدة 2011 – 2015 م , والتي من المقرر ان تدخل حيز التنفيذ اعتبارا من بداية العام 2010 م , وجدنا من الضرورة التوقف عند بعض المحطات والمراحل التاريخية السابقة ذات السياق نفسه , وذلك بهدف تعميق الفهم حول الرؤية الروسية لتلك الأسباب والدوافع التي طرأت على خارطة التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية العالمية الحديثة , ومنها تشكلت تلك التوجهات الروسية السياسية والعسكرية خلال المرحلة السابقة , والتي من خلال أحداثها وتحولاتها وضعت العقيدة العسكرية الروسية الثالثة في القرن الحادي والعشرين 0
وبالعودة الى تلك المراحل والمحطات التاريخية نجد ان روسيا الحديثة " روسيا بوتين " بشكل عام قد توقفت عند 3 مراحل جيوسياسية حتى نهاية العام 2009م , وهي :-
          * مرحلة الانتشال " عقيدة استعادة الدولة " والتي بدأت بالفترة الأولى لحكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين , واستمرت حتى نهاية فترة رئاسته الأولى ( 2000م – 2004 م ) , ويعتبر الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين ان تلك الفترة تحديدا كانت اقرب الى استعادة الدولة القومية القوية في مختلف جوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية , حيث ان الروس وفي تلك المرحلة كانوا  قد خرجوا من حقبة تاريخية عصيبة جدا , اثر الانهيار الجيوسياسي العالمي بسقوط الاتحاد السوفيتي مع بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين , كذلك فقد كان للتفسخ الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والتبعية الجيواستراتيجية والفوضى والصراعات الداخلية , الدور الآخر الذي ساهم وساعد في تأخر استعادة الروس لمكانتهم العالمية 0
لذا – وباختصار شديد - فان العقيدة العسكرية الروسية في تلك المرحلة كانت اقرب الى العقيدة الدفاعية منها الى العقيدة الهجومية او تلك التي تسعى للهيمنة وتقاسم رقعة الشطرنج الدولية , فقد كان الخوف من المتربصين بالدولة الناشئة , ومحاولات تشويه صورة روسيا والتدخل في شؤونها الداخلية , الشغل الشاغل للقادة العسكريين والسياسيين الروس , فمن جهة ما ( كان واضحا ان هناك حاجة الى لتعزيز الأمن عل الحدود الجنوبية لروسيا مع أسيا الوسطى والصين , ومن جهة أخرى , كان الجيش الروسي ما يزال يعتبر حلف الناتو تهديدا , ويستلزم بناء على ذلك تقوية القواعد الغربية والاحتفاظ بقدرتها النووية ) 0
وفي هذا السياق يقول ليونيد إيفاشوف - رئيس إدارة العلاقات الدولية في وزارة الدفاع الروسية والذي استضافته قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 4 / 4 / 2001 م , ( أولاً: يمثل الناتو حلفاً عسكرياً يملك مقدرة عسكرية هائلة ، حلفاً اغتصب لنفسه حق القيام بالعدوان ضد دولة مستقلة ، وعندما يقولون إن هذه الآلة العسكرية سوف تتحرك في اتجاه روسيا لأنها تحمل إلى روسيا الاستقرار والأمن، فنحن لا نصدق هذه الأقوال، كما لن تصدقها أي دولة أخرى ونحن نرى أن نصل الناتو ممدود في اتجاه الشرق ، في اتجاهنا نحن ، فلذا لا نتقبل انتشار الناتو نحو الشرق ، ونعتبر هذا التوسع باتجاهنا تهديداً لأمننا وهذا مسجل في  العقيدة العسكرية الروسية )
         * مرحلة بناء الدولة القومية العابرة للقارات " عقيدة فرض الاحترام " ( 2005 – 2009 ) , وبالتالي فان العقيدة العسكرية الروسية في هذه المرحلة لابد وان تنبع من هذا التوجه الجيوسياسي العالمي , والذي يقوم على بناء وتأسيس جيش قوي وقدرات عسكرية دفاعية وهجومية إستراتيجية قادرة على مواجهة جل تلك التحديدات والتهديدات الجديدة النابعة من الخارج تحديدا خلال الحقبة الزمنية الجديدة , والتي تدفع بالعالم السياسي نحو تبني عددا من الأفكار والتوجهات الجيوسياسية الاستثنائية , التي تلت مرور العالم بعدد من الحروب والصراعات الدولية 0
وهنا نطرح الأسئلة نفسها التي طرحها الجنرال محمود غارييف رئيس أكاديمية العلوم العسكرية الروسية حول طبيعة العقيدة العسكرية الروسية الثانية , في لقاء معه أجراه المعلق العسكري لوكالة RIA – نوفوستي الروسية  فيكتور ليتوفكين في شهر فبراير / 2007م , حول طبيعة التهديدات التي تجثم اليوم على أمن روسيا وما هي المهام الدفاعية التي تنتج عنها؟ ومنها تحديد التنظيم العسكري – العقيدة العسكرية – التي تحتاجها الدولة لتحييد التهديدات الممكنة وصدها عند اللزوم , والوسائل الممكنة للجوء إلى القوات المسلحة والفرق الأخرى ، وكذلك أنماط الحرب والنزاعات المسلحة التي ربما تفرض علينا اليوم وحتى العام 2015م ,  من هنا تولد توجهات التحضير والتأهيل العسكري , وبالأخص ، علينا – كما يقول غارييف- أن نعرف كيف نحضّر البلاد للدفاع بشكلٍ عام ، وقبل كل شيء على المستويات الاقتصادية والعسكرية الصناعية والسياسية المعنوية 0
فما هي طبيعة التهديدات التي واجهتها روسيا , أو تلك المحتمل مواجهتها خلال المرحلة الثانية ؟ ومنها يمكن تبني الروية الجديدة للعقيدة الروسية العسكرية الثانية ( 2005 – 2009 ) ؟
والحقيقة ان روسيا بوتين خلال الفترة الرئاسية الثانية 2004 – 2007 م , واجهت العديد من التحديدات الجيوسياسية العالمية , كان أخطرها على الإطلاق التهميش المتزايد من قبل الدول الغربية وتحديدا الولايات المتحدة الاميركية للدولة الروسية , وبالطبع فلا يزال مستمرا ذلك التهديد الذي يمثله حلف الناتو على الأطراف الغربية لروسيا , والمحاولات المستمرة لتوسيعه ليشمل بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق , كما لا يجب ان ننسى التدخلات المتزايدة في الشأن الروسي الداخلي والسعي لتسليح بعض الدول السوفيتية المتمردة على روسيا كجورجيا على سبيل المثال لا الحصر , والذي أسفر " نفخها " عن انفجار الحرب الروسية – الجورجية مع نهاية العام 2008م 0
بدت روسيا خلال تلك الفترة كما تقول الباحثة الروسية ليليا شيفتسوفا – مؤلفة كتاب روسيا بوتين - وكأنها تريد ( ان تثبت افتراقها عن الغرب وبأنها تزداد انزعاجا وخيبة أمل من شركائها الغربيين : من الهيمنة الاميركية وفي نفس الوقت التجاهل الاميركي لروسيا , ومن رغبة الأوربيين في تعليم روسيا الديموقراطية والسلوك الحسن في الشيشان ) , وهو ما دفع الرئيس بوتين ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي الى إطلاق تهديده المشهور باستعداد روسيا لمواجهة الولايات المتحدة الاميركية في حال لزم الأمر , وذلك بسبب غطرستها وتجاهلها للدولة الروسية ومصالحها الجيوسياسية والجيواستراتيجية العالمية , وإصرارها على بناء منظومة الدرع الصاروخي الاميركي في شرق أوربا , والذي تنظر إليه روسيا كتهديد مباشر لأمنها القومي , وتوسيع حلف الناتو ليقترب من حدود روسيا وذلك بضم كل من أوكرانيا وجورجيا 0
وفي ذلك الخطاب جدد بوتين رغبته في إعادة أمجاد الروس السابقة على عهد الاتحاد السوفيتي , واستعادة القوة الروسية الاستراتيجية والدول القومية العابرة للقارات 0 حيث حفظ العالم جملة بوتين الشهيرة وهي أن العالم يجب أن يستعد للتعامل مع روسيا قوية , وقال كذلك : إن انهيار الاتحاد السوفيتي قد شكل أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين وتذكر بحنين العالم الثنائي القطب القديم , حيث كانت هناك قوتان عظميان تكبح كل منهما طموحات الأخرى , وهو بذلك لا يعني فقط استرجاع جبروت روسيا المفقود , وإنما أيضا جعل بلاده الثقل الموازن الأساسي في مقابل القوة الأميركية , بحسب تعبير سيرغي كاراغانوف مستشار السياسة الخارجية في الكرملين .
لذا فقد تشكلت العقيدة العسكرية الروسية الثانية ( 2005 – 2009 ) بناء على العوامل الجيوسياسية سالفة الذكر , وبالتالي فقد كانت التوجهات الاستراتيجية لتلك العقيدة اقرب ما تكون للاستنفار والمواجهة مع الغرب منها الى الموقف الدفاعي المتفرج , ومن أهم ما يمكن ان يشار إليه في هذا السياق , الإجراءات التالية : تجهيز القوات الروسية بالعتاد الاستراتيجي القادر على مواجهة التهديدات العابرة للقارات وعلى رأسها الأسلحة النووية , والوقوف بحزم وقوة لمختلف محاولات التمرد والعصيان والانتهاك لسيادة الدولة الروسية او تلك الدويلات التي تستظل بجناح روسيا كما حدث مع جورجيا , والوقوف بنفس الجدية والحزم لمحاولات توسع حلف الناتو , بل واستخدام القوة اللازمة لفعل ذلك ان اقتضى الأمر , والسعي لتشكيل تحالفات عسكرية وان كانت فضفاضة مع قوى دولية تتشارك معها مخاوف المساعي الاميريكية للهيمنة على رقعة الشطرنج الدولية والاوراسية تحديدا كما هو الحال مع الصين 0
- وباختصار شديد – يمكننا اعتبار العقيدة العسكرية الروسية الثانية ( 2005 – 2009 ) – أي -  عقيدة " فرض الاحترام " هي عقيدة مواجهة وهجوم واستفزاز للغرب , وتحديدا الولايات المتحدة الاميركية , وذلك في محاولة من قبل بوتين لإظهار المكانة القوية التي وصلت إليها وتملكها روسيا الجديدة اليوم , وبالتالي التأكيد على رفض أي املاءات او تدخلات خارجية في الشأن الروسي , او حتى التفكير في سلب الروس لحقوقهم التاريخية القديمة , ولمزيد من المعرفة حول تلك التحولات والتغيرات التي تشكلت حولها العقيدة العسكرية الروسية سالفة الذكر , ننصح بالرجوع للمراجع التالية على سبيل المثال لا الحصر – الفصل الثالث من كتابنا المفاجأة الروسية , وكتاب رقعة الشطرنج الكبرى لزبجينيو بريجينيسكي وكتاب روسيا بوتين لليليا شيفتسوفا0  
         * مرحلة تأكيد المكانة العالمية " عقيدة التوازن الاستراتيجي " , وهي العقيدة الثالثة التي تتبناها روسيا في تاريخها الحديث , وسيبدأ تطبيقها عمليا منذ ( 2011 – 2015 ) , وعن هذه العقيدة الجديدة التي أعلن عنها سكرتير مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف يوم الخميس الموافق 19 / 11 / 2009 م ,  في مدينة سانت بطرسبورغ , والتي ستقدم لرئيس الدولة قبل نهاية العام 2009م , يقول المحلل والسياسي الروسي المعروف ليونيد ألكسندروفتش بان ( العقيدة  العسكرية الروسية الجديدة لم تأت من فراغ بل جاءت رد فعل على إستراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلن عنها مؤخرا والتي استبعدت روسيا من قائمة حلفاء وأصدقاء أميركا في حربها ضد الإرهاب ، على الرغم من أن روسيا كانت ضمن هذه القائمة في إستراتيجية عام 2002، لقد تعاملت الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي مع روسيا بشكل سلبي ووضعتها ضمن الدول التي لا تطبق المعايير الديمقراطية الصحيحة واتهمتها بالتدخل في شؤون جيرانها ودعم أنظمة مارقة ومتطرفة مثل نظام الرئيس هوجو شافيز في فنزويلا ) 0
والحقيقة إننا نستطيع ان نقول بأنه وبالإضافة الى تبني مختلف الأفكار التي كانت حاضرة في الاستراتيجية العسكرية الروسية الثانية  ( 2005 – 2009 ) , فان هذه الأخيرة قد تبنت بعض الخيارات الاستراتيجية العسكرية الاستثنائية كخيار إقدام روسيا على توجيه ضربات نووية استباقية , وإمكانية استخدام القوات العسكرية الروسية خارج الدولة , وتوسيع المناطق الحدودية لروسيا من مسافة خمسة كيلومترات إلى خمس عشرة كيلومتر وخاصة في الجهات الغربية لروسيا ، وبهذا تعود المنطقة الحدودية الروسية إلى ما كانت عليه في زمن الاتحاد السوفييتي ، وقد أحدث هذا القرار ردود فعل قوية لدى واشنطن ولدى دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا , ويدور النقاش أيضا حول البند الذي يجيز استخدام الأسلحة النووية في النزاعات المحلية في حالة وجود تهديد بالغ الخطورة على الأمن القومي الروسي 0
وفي هذا السياق كتب إيليا كرامنيك ، المعلق العسكري لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء حول نوعية تلك النزاعات التي تمثل تهديدا بالغ الخطورة للأمن القومي الروسي؟ وعلى أساسها فقد تم تبني العقيدة العسكرية الاستراتيجية الروسية الثالثة التحليل التالي :-
( بإلقاء نظرة إلى جيران روسيا في الساحة السوفيتية سابقا قد نستطيع أن نتخيل نشوب نزاع مع جمهوريات البلطيق السوفيتية سابقا لأنها أصبحت أعضاء في حلف شمال الأطلسي ، غير أن احتمال نشوب مثل هذا النزاع ضئيل جدا ,  وإذا افترضنا أن يندلع نزاع بين روسيا وهذه الجمهوريات فلن نستطيع أن نتخيل أن تستخدم روسيا السلاح النووي في ضرب هدف ما في أراضي بلدان الجوار القريب , وبالتالي فإن أهداف السلاح النووي الروسي في الحرب الافتراضية ستكون - على الأرجح - خارج منطقة البلطيق , والأغلب ظنا أنه لا يمكن إلا لحرب واسعة النطاق أن تمثل تهديدا حرجا لأمن روسيا يستوجب اللجوء إلى استعمال السلاح النووي دفاعا عن الذات، علما بأنه بعدما شن الناتو عمليته الحربية على يوغوسلافيا استقر رأي روسيا على أنها لن تقدر على صد عدوان محتمل يأتي من الغرب إلا عندما تستخدم السلاح النووي )
و- باختصار – فان العقيدة العسكرية الاستراتيجية الروسية الثالثة ( 2011 – 2015 ) , وبالإضافة الى تبنيها لجل تلك الأفكار والأطروحات العسكرية الدفاعية والهجومية الاستراتيجية منذ العام 2000م , قد تم هذه المرة إضافة معايير استثنائية عليها تراعي في الحسبان تلك التطورات العقائدية العسكرية للدول الأخرى كالولايات المتحدة الاميركية على سبيل المثال , والتي لا تستبعد إمكانية القيام بالسبق في توجيه الضربة النووية الأولى عند الضرورة , وهو ما قصدناه تحديدا بعقيدة " التوازن الاستراتيجي " , كذلك ومما يجب التأكيد عليه في هذه العقيدة الجديدة , تجديد القيادة الروسية على تلك الرسائل القوية التي تفيد إعادة التأكيد على مكانة روسيا الجيوسياسية والجيواستراتيجية في العقد القادم من القرن الحادي والعشرين على رقعة الشطرنج الدولية , كذلك ومن ضمن ما يمكن الإشارة إليه في هذا التوجه العسكري الجديد , هو إضافة عامل الترهيب وزرع روح الخوف في نفوس أعداءها التقليديين والمتمردين على نفوذها التاريخي , وهو ما يستدعي التفكير كثيرا قبل التعرض لأمنها القومي ومصالحها الدولية للتهديد والخطر
أ. محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

الخميس، 2 سبتمبر 2010

مفاوضون حائرون وأعداءٌ واثقون ووسطاء منحازون ......... بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

جولةُ مفاوضاتٍ جديدة ستشهدها العاصمة الأمريكية واشنطن خلال الأيام القليلة القادمة، بمشاركة وحضور ومباركة قادةٍ وزعماءٍ عرب، إلى جانب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذين سيعملون معاً على توريط رئيس السلطة الفلسطينية أكثر ما هو متورط، وسيدفعونه نحو تقديم المزيد من التنازلات لصالح العدو الإسرائيلي، إذ من المقرر أن تعقد جولة المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في مكانٍ ما في واشنطن، وسيترأس الوفدين كلٌ من رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس الحكومة الإسرائيلية، الذين تسابقا في إعلان مواقفهما قبل الشروع في هذه الجولة، وستنظم هذه الجولة الجديدة من المفاوضات المباشرة إلى أخواتها السابقات من الجولات التي عقدت برعاية الإدارة الأمريكية في واشنطن وكامب ديفيد وأنابوليس، والتي لم يتحقق منها شئ، ولم تنجح أيها في التوصل إلى أي نتيجة ترضي الفلسطينيين، وتحقق رغباتهم، وتقيم لهم دولة، ولم تستجب إلى أيٍ من مطالبهم العادلة والمشروعة، كما لم تحقق الرؤية الأمريكية التي ورثتها الإدارة الأمريكية وتمسكت بها، بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة.

المشاركون في مفاوضات واشنطن المباشرة ثلاثة أطراف، الراعي الأمريكي والمشجعون العرب، الذين سيمارسون دورهم المعهود في تسيير المفاوضات واستضافتها، وتذليل العقبات واجتراح الحلول، وتشجيع الطرفين الآخرين على الجلوس معاً على طاولة المفاوضات والحوار المباشر، وهو ذات الدور الذي دأبوا على لعبه منذ سنوات، ولكن دورهم في تسيير المفاوضات، وإزالة العقبات، ليس نزيهاً، ولا يتصف بالمصداقية التي ينبغي على الوسطاء أن يتحلوا بها، إذ يتمثل في ممارسة المزيد من الضغط على الوفد الفلسطيني فقط، ليدفعوه نحو تقديم المزيد من التنازلات والقبول بالشروط والمواقف الإسرائيلية، وعدم فرض شروط جديدة، أو وضع عقبات أمام عجلة السلام، في الوقت الذي يعجزون فيه جميعاً عن فرض أي شروط على الجانب الإسرائيلي، ويترددون في الطلب منه التراجع عن بعض الإجراءات الحكومية التي عقدت عملية التفاوض، وجعلت من اللقاء المباشر أمراً صعباً، وهدفاً صعب المنال، وأصبح غاية ما يتمنونه من الحكومة الإسرائيلية هو التفرغ لعدة أيامٍ في مكانٍ ما في واشنطن، لذر الرماد في عيون العرب والفلسطينيين، لتبدو أمام الرأي العام الدولي بأنها جادة في سعيها للسلام مع الفلسطينيين، ولتظهر الإدارة الأمريكية أنها جادة في رعايتها للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وأنها جادة في تحقيق رؤيتها بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية.

أما الطرف الثاني على طاولة المفاوضات فهو الجانب الإسرائيلي، الذي سيصل إلى واشنطن وهو واثق من مواقفه، ويعرف ماذا يريد من جولة الحوار المباشرة، ويدرك الغاية والهدف من هذه الرحلة التي سيقطع مسافتها الطويلة رئيس الحكومة الإسرائيلية ومستشاروه المفاوضون، الذين يعرفون تفاصيل كل قضية، ويعرفون دقائق كل مسألة، ويحملون معهم أجندة المفاوضات التي لن تنتهي، فهم يريدون مفاوضاتٍ مارثونية، لا تؤدي إلى أي نتيجة، ولا تقود إلى أي حل، ويتطلعون فقط إلى صورةٍ تجمعهم مع رئيس السلطة الفلسطينية إلى جانب الرئيس الأمريكي وبعض الرؤوساء العرب، لتبدو إسرائيل أمام الرأي العام العالمي بغير صورتها الحقيقية البشعة، التي كشفت عنها ممارساتها العديدة، وآخرها هجومها الدموي على قافلة الحرية، فمرادهم صورة جميلة لدولتهم، وتمسكٌ واضح وحاسم وقاطع بثوابتهم، التي يرونها حقاً لهم، لا ينازعهم أحدٌ عليها، ولا يقاسمهم بها أحد، فلا لدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، ولا انسحاب إلى حدود الرابع من حزيران، ولا لتقسيم مدينة القدس، ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ولا لحرية الأسرى والمعتقلين، ولا توزيع عادل للمياه بين الأطراف، ولا سيادة للفلسطينيين على أرضهم، ولا سيطرة لهم على معابرهم، ولا سلطة لهم على مياههم الإقليمية، ومجالهم الجوي، ولكن مفاوضاتٌ ولقاءات تغطي الأنشطة الاستيطانية، وتجمل الإجراءات التعسفية الإسرائيلية، وتدفع بالسلطة الفلسطينية للاعتراف بهودية الدولة العبرية، بعد أن سبقت بالاعتراف بشرعية الدولة الإسرائيلية.

أما الطرف الفلسطيني فهو الطرف الأضعف والأقل حيلة، رغم أنه بحقه وثوابته كان ينبغي أن يكون الطرف الأقوى، فلو أنه ركن إلى مقاومة شعبه، وخيارات الصمود التي أبدتها الأمة تضامناً مع القضية الفلسطينية، لما استطاعت الحكومات الإسرائيلية أن تتمادى في غيها وعدوانها، ولكن الطرف الفلسطيني المفاوض، الذي أعلن تخليه عن كثيرٍ من الثوابت، وأبدى استعداده للتنازل عن كثيرٍ من الحقوق، وانبرى للدفاع عن الحكومة الإسرائيلية، لتحسين صورتها، وإعادة البريق الذي فقدته بسبب سياساتها، وخضع للشروط والإملاءات الأمريكية، وقدم فروض الطاعة للإدارة الأمريكية التي تراجعت عن مواقفها ووعودها، الأمر الذي جعل من الطرف الفلسطيني المفاوض أداةً طيعة في يد الإدارة الأمريكية، وقبل أن يكون خرقة القماش البالية التي تمسح بها الحكومة الإسرائيلية ما شاب صورتها من قذى، وما علق بها من قذارة، ليفقد بذلك المفاوض الفلسطيني احترام شعبه، وتقدير أهله، وينزلق أكثر في حمأة الانقسام والفرقة والاختلاف، فكان بجدارةٍ هو الطرف الحائر التائه الضائع الذي لا يعرف ماذا يريد، ولا ماذا سيحقق من هذه المفاوضات، فهو بسعيه للحصول على بعض الفتات من العدو الإسرائيلي على طاولة المفاوضات، أوقع شعبه وأهله في دائرة الخلاف والخصومة، فحاله أشبه بالغراب الذي عندما حاول أن يقلد مشية الآخرين فنسي مشيته، فلا هو نجح في تقليد الآخرين، ولا هو استطاع أن يعود إلى طبيعته.

الحقيقة المرجوة من المفاوضات المباشرة، أن الإسرائيليين يبحثون عن هدنةٍ مع المجتمع الدولي، وعن صورةٍ زائفة مع السلطة الفلسطينية، وإشاعة كاذبة بحرصهم على السلام، ليتمكنوا من تنفيذ المزيد من أحلامهم، بتهويد مدينة القدس، وطرد أهلها، وسحب الهوية المقدسية من سكانها، ومصادرة المزيد من أراضي الضفة الغربية، لبناء المزيد من المستوطنات عليها، وتوسيع المشاد فيها، والسيطرة على المياه الجوفية في الضفة الغربية، بينما الجانب الفلسطيني سادرٌ ضائع وحائر، لا يعرف ماذا يريد، ولا إلى أين يؤدي هذا المسار، بل ينكر أن يعترف بحقائق مسار المفاوضات مع العدو الإسرائيلي، أنه مسار التيه، ودرب الضياع، وطريق الخسارة، لا نجاة لسالكه، ولا فوز لعابره، ولا غاية مرجوة من المؤمنين به، والمعتمدين عليه.
د. مصطفى يوسف اللداوي

أزمات دراماتيكية ولا حلول تلوح في الأفق ..... بقلم عصام الياسري

ما سبيل تناول المشهد السياسي العراقي وسط أزمات دراماتيكية يعج بها البلد والمجتمع، وأي من القضايا على المرء أن يمسك لمعالجة الوضع؟. ومن ذا الذي يحسن القول والعمل وها هي ستة شهور عجاف تمر على العراق والعراقيين دون أن تثمر الانتخابات الأخيرة عن تشكيل رافعة سياسية تنتج حكومة مركزية قوية لا تساوم على حساب مصالح الأمة ووحدة الوطن وتقود لتغيير الأوضاع وانهاء الأزمات بطريقة الزامية حضارية مسئولة. ان المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العراقية لا تعد ولا تحصي، معالجتها ووضع الحلول لا تتحقق الا في ظل وجود المؤسسة "التشريعية والقانونية" الفعلية ورعاية " الدولة الحصرية". وتكشف الأحداث بأن تسلط القوى الطائفية والأحزاب العقائدية والشوفينية بما ينسجم ومصالحها، هو السبب الأساس في تأزم الوضع. لقد نكث هؤلاء القوم الذين لا يفقهون في السياسة كما في الدين عن كاهلهم أبسط القيّم، ولم يبق من أخلاقياتهم أي شيء سوى العمل على بسط نفوذهم دون الالتفات الى أوضاع العامة من الناس، وباتوا عاجزين عن اصلاح ما خرب الغزو الأمريكي في العراق. فالأمن يسير نحو الهاوية والرعاية الصحية والمعاشية في أسوأ حال، الاعمار والماء والكهرباء معدوماً، فيما أصبح الاقتصاد الوطني عرضة للنهب، والقتل والارهاب على أيدي مليشيات مسلحة بعضها تابع لأحزاب السلطة تفاقم وبات يشكل خطراً على حياة المواطنين. وأصبح ظرف العراق الصعب عاملاً لممارسة الابتزاز الطائفي والقومي والتهديد برفع سقف المطالب بهدف الحصول على غنائم جيوديموغرافية وسياسية ومادية لا حصر لها بسبب العجز السياسي وعدم وجود حكومة مركزية قوية.


وعلى الرغم من مرور فترة قياسية تجاوزت السبع سنوات على احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، لم يتغيّر المشهد السياسي قيد أنملة ولم يطرأ أي تحسن ملحوظ على كل المستويات، ولا زال الوضع على كافة الصعد أكثر تعقيداً والصراع بين جميع الأطراف محتدماً. ومضت ستة شهور على الانتخابات البرلمانية الأخيرة دون أن يلوح في الأفق أمل الوصول لتشكيل حكومة ترتقي بمستوي مسؤولياتها الوطنية. وتعدت الأزمة السياسية مساحة الاستثناء الطارئ وتعكرت أجواء الحوار بين أطراف ما يسمي بالعملية السياسية وأصبح أكثر غموضاً. والمشكل أن السياسيين العراقيين على مختلف مشاربهم لا يتنافسون لأجل بناء الدولة وتطوير مؤسساتها وتحسين الاقتصاد وأوضاع الناس المعاشية والاجتماعية، انما يتصارعون من أجل الاستحواذ على السلطة وتوزيع المناصب بهدف النهب والسرقة والاعتداء على أملاك الدولة والكسب بطرق غير مشروعة. كما أن التشهير والاتهامات المتبادلة أصبحت العتبة التي يستقر اليها جميع السياسيين، وبات العراقيون في حيرة من أمرهم لا يهدأ لهم جنب غير الوعود الكاذبة.. والسؤال الذي يتطلب الاجابة هو: من سيحصد ثمار المرحلة القادمة ويحسم أمر السياسة لصالحه؟. وهل يستطيع الشعب أن ينتفض ليصلح ما لا يليق بشأنه ومصالحه لينهي ما أفسده دخلاء السياسة من جهلة وسراق ومنافقون.


لقد كشفت الانتخابات الأخيرة الكثير من العيوب وأفرزت حقائق تقتص من ادعاء السياسيين العراقيين الجدد على أنهم يريدون رفع شأن العراق وبناء الديمقراطية وسعادة المجتمع. ان اعلان أسماء النواب كما أسس له العرف الطائفي لا القانوني واعتبارهم أعضاء في المجلس على الرغم من أن الكثيرين منهم لم يحصلوا على مئة صوت من مجموع 12 مليون ناخب عراقي، فيما أن شخصيات معروفة سقطت ولم تحصل على عشرة أصوات لكنهم دخلوا قبة البرلمان ليمثلوا العراقيين دون تفويض منهم، ظاهرة خطيرة تكشف عن طبيعة فهم هؤلاء الساسة للديمقراطية كما تدل على عدم احترامهم للقانون والدستور الذي وضعوه بأنفسهم دون استفتاء شعبي يخضع لآليات حيادية معترف بها دولياً.


ومنذ غزو العراق عام 2003 ومؤسسات الدولة الرئيسية " التشريعية والتنفيذية " أي الحكومة والبرلمان تخضع لتجاذبات اقليمية أدت الى تأزم الوضع وافراز مجموعات تحركها قوى خارجية تسيطر على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. وبات المواطن يشعر بعدم الطمأنينة على حياته ونمو مستقبله، فيما أضحت ظاهرة نهب خيرات البلد والاثراء على حساب قوت الفقراء والكادحين أو بناء الدولة واعمارها واقع حال لا يستطيع القانون النيل منها بسبب المساومات والابتزاز الطائفي. وبسبب المحسوبية وشراء الذمم وصل الكثير من الجهلة والانتهازيين والمنافقين الى موقع المسؤولية، الأمر الذي انجر عليه تراكم الأخطاء وتأثير مخاطرها على مستقبل المشروع الوطني برمته. ان عدم بلورة حلول اجتماعية وسياسية هادفة وايجاد موازنة اقتصادية وانمائية منتظمة تهدف الى احتواء الأزمة التي أفرزتها الانتخابات وما قبلها، أدت الى اجهاض أي تحول نحو الأمن الاجتماعي والوفاق الوطني وبالتالي نحو البناء والاعمار وتقدم المجتمع. ولم تكتف الأطراف الكردية "بيضة القبطان" بالمزيد من الابتزاز ورفع سقف مطالبها فبالاضافة الى سعيها لاعمار المناطق الكردستانية على حساب المدن العراقية الجنوبية والوسطي، وامتلاكها شرطة وجيش نظامي لا للحكومة المركزية أي سيطرة عليهما، واستخراجها النفط في شمال البلاد والقيام ببيعه وتصديره دون موافقة الجهات المركزية المختصة، وعقدها الاتفاقيات وبناء علاقات دبلوماسية مع دول أجنبية المفروض أن لا تبرم الا باتفاق هذه الدول مع الحكومة المركزية حصراً. وسيطرتها على مدن وأراضٍ خارج حدودها وعدم السماح لأي مواطن غير كردي التنقل في المناطق الشمالية الا بالحصول على اذن خاص "فيزة" ونهب الموارد العراقية وتحويلها على حساب قادة الأحزاب والعشائر. فانها تمارس ضغوطاً اتجهت في أكثر من مرة الى التهديد بالانفصال وضم مدن عراقية بالقوة. الا أن المواطن الكردي يدرك بأن القيادات الكردية الحاكمة في شمال العراق لا تختلف في سلوكها وأطماعها عن سلوك المتنفذين في المناطق العربية أو أعضاء ما يسمي بالحكومة والبرلمان الاتحادي الذي حصل الكرد على نسبة 17% من المقاعد فيه.


والعراق بسبب الاختناق السياسي بات أسير الصراعات العرقية والطائفية التي لا تخدم الا مصالح الأطراف المتصارعة لأجل مكاسب فئوية ضيقة، فالطبقة السياسية التي تحكم البلاد لا شأن لها على الاطلاق بمصلحة العراق والمواطنين ففي الوقت الذي تتجاوز دول الجوار تركيا وايران والكويت باستمرار على حرمة الأراضي العراقية وتعتدي على حقوقه المائية، يعتكف الساسة العراقيون من العرب السنة والشيعة وغيرهم الصمت ويتصارعون على الغنائم كما يساومون على مصالح بلدهم ويقدمون التنازلات تلو الأخرى، فقط لأجل البقاء في السلطة والتمتع بالامتيازات السياسية والمادية على حساب مستقبل العراق ومصير شعبه.


ويبدو أن الأمريكيين الذين ارتكبوا خطئاً في احتلال العراق وتدميره تدميراً شاملاً لا مثيل له في التاريخ المعاصر. خربوا مؤسساته وبنيته التحتية وفتكوا بالبيئة والعقل العراقي ونهبوا تراثه الحضاري وأسقطوا ثقافته ورموزها. قد ارتكبوا اليوم بحماقتهم خطئاً جديداً عندما بدءوا بسحب أغلب قواتهم العسكرية من العراق واستبدالها بقوات مرتزقة يعرف عنها الكثير من القساوة والابادة والقتل. الأمر الذي سيجعل الصراع بين الأطراف السياسية العراقية مفتوحاً باتجاه التمرد ووقوع سلسلة من الحروب الطائفية والشوفينية الطاحنة، بسبب ضيق الأفق القومي والديني والخوف على مكتسبات حصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام. وأظن بأن الاحتلال والقوى العراقية التي عقدت الاتفاق والذهاب معه لأبعد الحدود لقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق، قد قصدوا بالأساس الفكر والثقافة وتعمدوا خراب عاصمة العلم والحضارة بغداد وابقائها دون اصلاح حاضنة للقمامة والنفايات لانهاء دورها السياسي في التحدي لمواجهة التخلف والخراب والذود عن مصالح الأمة. واذا كان هدف مخطط الانسحاب العسكري الأمريكي الجزئي من العراق لتغيير المشهد السياسي سايكولوجياً، واعطاء الرأي العام الداخلي انطباعا بأن سياسة التخويف والتخوين والاقصاء تحت طائلة الاتهام بالانتماء للبعث أو القاعدة والارهاب لمن يعارض الطائفية والاحتلال ستنتهي، وأنه سيكون سبباً موضوعياً للذهاب نحو بناء الدولة العصرية ومؤسساتها. فلا بُد الاقرار بالحقيقة: بأن احتلال العراق قد كلف الأمريكان الكثير وأنهم عجزوا عن تحقيق مشروعهم وتأمين مصالحهم في المنطقة. وان العراق سوف لن يتمتع بحكومة مركزية قوية من طراز جيد الا عندما يكون لديه قوات جيش وشرطة بعيدة عن المحاصصة الطائفية وقادرة على تعزيز الأمن في جميع أنحاء العراق واعادة النظر بالدستور والقوانين والاتفاقيات التي صدرت بطريقة غير شرعية وبالتعارض مع مصالح العراقيين وطموحاتهم.

عصام الياسري