يبدوا أن الطريق لا زال طويلا وشاقا جدا قبل أن يتمكن حملة الأقلام العربية من تحديد هويتهم الثقافية , ومرجعيتهم الفكرية من وراء هذا الكم الهائل من الكتابات الخرساء الصامتة , فلا أتصور أن فكرا سائدا يساير التيار يستطيع أن يقيم حوارا مسموعا , تختزل فيه هموم الشارع الإسلامي والعربي , ودموع الفقراء وأنين الضعفاء وآلام البؤساء , وأن يحقق المراد من وراء وجوده الثقافي والأدبي في أي أمة , وهو خدمتها , ورفع شانها الحضاري , والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من أبناءها , ففكر من ذلك النوع الصامت لا يمكن أن يصل مداه إلى مساحة أبعد من قدم صاحبه .
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا دلائل كثيرة على أن الأمم والشعوب التي يصمت مثقفيها طويلا ليتكلم ساستها كثيرا تترهل سريعا لتتلاشى مع الوقت , بينما تعكس ثورة الأقلام هوية الأمة , ومدى وعي أبناءها وقدرتهم على الاستمرار والبقاء , فقدرة مثقفيها على تحقيق ذلك الحوار المسموع والمتوازن مع السياسة , هو وحده الكفيل بخلق تلك المعادلة التاريخية والحضارية المفقودة بين الثورة الثقافية والنضال السياسي الإنساني 0
فلماذا عجز المثقفون العرب بعد كل هذه السنين الطويلة من الكتابات التي أمتلئت بها المكتبات العربية , من تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي ؟ بينما نجح المثقفون في الدول الغربية من تحقيق تلك المعادلة الفكرية التي لا تنفصل فيها هندسة المعاني الثقافية عن المعادلات السياسية ؟ ولماذا لم يتمكن المثقف العربي بالرغم من وصول صوته إلى مسافات بعيدة من تهيئة البيئة الفكرية المناسبة للحوار السياسي مع السلطة والحكومة ؟
بينما استطاع المثقف الغربي من تخطي تلك العقبة ليكون هو نفسه جزء رئيسيا لذلك الحراك السياسي الوطني , وملهما لتلك الثورات الفكرية والسياسية التاريخية التي غيرت مسيرة الأمم والشعوب الأوربية على سبيل المثال لا الحصر ؟
والحقيقة أن هناك العديد من الإشكاليات والعقبات التي يمكن أن نطلق عليها بالبيئة المعطلة لخلق جيل من المثقفين العرب , تتوفر لديهم القدرات الثقافية والسياسية الوطنية والقومية , والتي وجدنا – من وجهة نظرنا – أنها من ابرز الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع التاريخي والتدهور الحضاري والانحطاط الثقافي والفكري لدور المثقف العربي في صناعة النضال السياسي اليومي , وهي :
1 - فقدان الدفء الوطني : ونحن حين نتحدث عن ذلك الدفء الوطني فإننا نقصد به ذلك الإحساس الذي يجب أن يناله الأديب والمثقف والفنان في وطنه , - أي – الشعور بالحب والتقدير والاحترام والثناء , الذي يدفع الفكر إلى الأمام , ويحرض النفوس على البذل والعطاء والاجتهاد , لا الإحساس بالتهميش واللامبالاة , أو كما يقال " لا كرامة لنبي في وطنه " كما هو حاصل اليوم في الكثير من البلدان العربية – وللأسف الشديد – فلا تقدير ولا رعاية للبعض من الأقلام الشريفة المخلصة إلا بعد موتها , في حين لا يجد الآخرين أي تكريم لا في حياتهم ولا بعد مماتهم , في وقت نجد فيه الكثير من أقلام السلطة والحكومة وتجار الكلمة الماجنة والصحافة الصفراء والأقلام الارتزاقية والمتاجرين بشرف الكلمة يرفلون في النعيم المقيم 0
2 - فقدان الفعل الثقافي : حيث لم يتحول بعد القول الثقافي لدى المثقف العربي إلى فعل ثقافي ونضال يومي ملموس ومحسوس , ولم يتجاوز المثقف العربي بعد بأفكاره وكلماته الأوراق ليصل إلى هموم الشارع وقضاياه , فثقافة الثرثرة العاطلة لازالت مسيطرة وسائدة في زمن المهرجين والمتسلقين والمتفيهقين من أصحاب الأقلام , فللأسف الشديد لقد ( ثرثرنا أكثر مما كتبنا , وكتبنا أكثر مما فعلنا ) , ولذلك لم و لن نستطيع أن نخطو بعيدا بهذه الأقدام المترهلة , حتى ونحن نسير تحت الظلال الوارفة , خائفين من حرارة الشمس الحارقة , ننظر إلى الشارع من ناطحات السحاب والأدوار العلوية 0
إذا فالمطلوب من المثقف العربي اليوم لكي ينجح في تخطي هذه العقبة , هو النزول إلى الشارع المهمل والدخول إلى بيوت الطين وسعف النخيل , المطلوب منه الاهتمام بقضايا الضعفاء والبؤساء والفقراء والمظلومين , حينها فقط سيستطيع التقريب ما بين البندقية والوردة , وسيشعر ولو بشي من معاناة المجتمع الذي لا زال ينتظر منه تحويل كلماته إلى فعل تتحقق من خلاله الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة الاجتماعية 0
وباختصار - لابد أن يتحول الشارع الثقافي العربي كله إلى نماذج من النضال العربي الفلسطيني , والى نماذج من الثورة الفلسطينية الأدبية , فالنموذج الثقافي الفلسطيني هو نموذج نضالي رائع , يستحق الاحترام والتقدير والإجلال , استطاع أن يعطي الشعر والرواية والقصة والمقال وهجا لم يكن ليكسبه لولا حضور الثورة في أعماقه , واستطاع أن يحول تلك الكتابات إلى حجر وبندقية – أي – إلى فعل ثقافي يستحق الاقتداء به 0
نعم , نحن لا نستطيع أن ندعي أن إسرائيل قد أصبحت اليوم ابعد عن ذي قبل , ولا نستطيع أن ندعي أن أطنان تلك القصائد والدواوين والكتابات النضالية الرائعة قد حررت بيت المقدس وأحرقت المستعمر الصهيوامريكي في فلسطين والعراق , أو في غيرها من البلدان العربية المستعمرة سياسيا وثقافيا , ولكننا نستطيع أن نؤكد على أن تحرير الشعوب ونيلها لحريتها من خلال أطنان تلك الأوراق سيتحقق لا محالة والتاريخ يؤكد ذلك , ولكن بشرط أن تتحول تلك الأطنان من الكتابات إلى ثورة وجحيم , يصطلي بنارها الظلم والبغي وأعوان الطغيان , ونقول – بأنه وكما وهبت الثورة الإبداع الحقيقي للثقافة في فلسطين على سبيل المثال , فلابد أن تهب الثقافة العربية النضال الحقيقي للثورة في كل أرجاء عالمنا العربي 0
3 - سلبية النظرة الفكرية : فغالبا ما تدور أغلب تلك الأقلام في دائرة النظرة الضيقة والأبواب المغلقة والمواضيع التي ترتكز على الأفكار والقضايا الاجتماعية والاقتصادية " المحبطة " كالسرقة والفساد والغش واليأس والقنوط وجلد الذات وهكذا , ونحن هنا لا نطالب بإهمال هذا الجانب المهم للغاية , ولكن من المهم كذلك هو التفكير بطريقة ايجابية في زمن اللون الأسود , وذلك بهدف زرع الأمل في النفوس ودفع العقول والأفكار نحو الكفاح والنضال من اجل الحرية والتطلع إلى الأبواب المفتوحة , إذ لابد من خلق توازن في الأفكار ما بين ثقافة الإحباط وجلد الذات وثقافة الأمل في الطرح الفكري , وهل تستطيع الأمم والشعوب أن تعيش على طعام واحد ؟ وإذا عاشت فالي متى ؟
4 - فقدان الأمن الثقافي : فاغلب مثقفينا اليوم يدورون ما بين طاحونة الوظائف الحكومية , ويقضون يومهم في البحث عن لقمة العيش , وبين ما نطلق عليه " بالثقافة الرسمية المحاصرة " وفي كلا الحالتين , لا يمكن أن ينجح الكثير منهم في التخلص من الواجهات الزجاجية الملونة التي يعيشون خلفها , - وللأسف الشديد – حتى ثقافة الجياع هذه لم يستطع مثقفينا استغلالها بالطريقة الصحيحة كما فعل مثقفي أوربا ودول أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة الاميريكية في وقت من الأوقات , فأين الأمن الثقافي الذي يدفع الأقلام والعقول للعطاء والبذل والاجتهاد والنقد البناء ؟ في وقت لا تتمكن فيه العديد من أقلامنا العربية الشريفة المخلصة من الحديث همسا عن أخطاء الحكومات والمسئولين فيها , خوفا على أنفسهم وأسرهم من التنكيل والمعتقلات 0
نعم 000 يبدو أن سلبية المثقف العربي تجاه " الجوع القائم والجوع القادم " لن تكون اقل من سلبيته تجاه قضايا كثيرة لم يستطع بعد سنوات من الكتابة الصامتة أن يفك طلاسمها كالديمقراطية والحرية والعدالة والوحدة العربية , كما لا يبدوا بان الحكومات العربية ستستطيع أن تتخلص من عقدة خوفها من تلك الأقلام المخلصة والناقدة البناءة لأخطأها , أو حتى أن تقترب وتتقرب من تلك الأقلام لتستفيد منها ومن أفكارها , وهي واحدة من الإشكاليات الرئيسية التي اشرنا إليها بفقدان الحوار الشفاف والبناء ما بين الثقافة والسياسة في عالمنا العربي0
فالمثقف العربي ( وتحت ظروف الحياة القاسية , يضطر في كثير من الأحيان أن يكتب بعدة لغات وعدة لهجات وعدة ألوان , وهو فيما إذا قابل السلطة يحتار بأي لغة يتكلم , وبأي لهجة يتفاهم , وبأي لون يخاطب , وتضيع الحقيقة , وهو لم يهتدي بعد إلى اللغة واللهجة واللون )0
5 - فقدان المرجعية الثقافية : فالمثقف العربي هنا فاقد للوجهة والواجهة الثقافية , فاقد للهوية الوطنية والقومية والحضارية , فلا تكتب النخبة الثقافية في عالمنا العربي بالعربية ولا تتكلم بالعربية , بل تلوي لسانها لتخاطب العامة بتلك المصطلحات والمفاهيم التي لا يفقهها سوى البعض من النخبة الثقافية , وإذا تحدثت بلغة الشارع , فهي كمن يتحدث الى بقايا بشر لا قيمة لهم ولا فائدة منهم , فالبحث عن الهوية القومية والهوية الوطنية لدى أي شعب من الشعوب , يبدأ من البحث عن لغته , فإذا ضاعت اللغة أو غيبت أو فقدت , ضاعت وراءها الأمة بأسرها , و- أي – امة تستطيع أن تدعي استقلالها وهي فاقدة للغتها 0
كذلك ومما يجب أن يشار إليه هنا , هو فقدان المثقف العربي للنموذج العالمي الحضاري التوجيهي , فبالرغم من الحياة تحت ظلال الإسلام والقران الكريم , إنما – وللأسف الشديد – لم يتمكن المثقف العربي بعد من تأكيد مرجعيته الفكرية الإسلامية تلك , ولا أتصور شخصيا بان أي فكر عالمي آخر غير الثقافة الإسلامية قادر على فتح جميع الشبابيك المغلقة في وجه الشعوب والحضارات , ولو نظرنا إلى أوربا وأمريكا على سبيل المثال لا الحصر واستعرضنا النماذج الثقافية التنموية التي تبنتها , سنجد أنها حققت نتائج مادية كبيرة , ولكنها لم تستطع أن تقدم للإنسان فيها الحل الشامل لمشكلاته الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية 0
فعندما جردت هذه الثقافة المرجعية للمثقف العربي المسلم من دورها الحضاري كوجه وواجهة للأمة ككل , وللقيادات الثقافية والسياسية على وجه الخصوص , وعندما ( جردت هذه الثقافة من بعدها المعرفي في الوقت الحاضر , وأصبحت مجرد حرفة , وأصبح الإسلام مجرد شعائر وطقوسا لدى البعض , أكثر منه معرفة وتفاعلا مع الحياة , باعتباره جذر الثقافة العربية الضارب 000 حدث هذا الاستلاب , ولم يعد الفرد العربي – ولا المثقف العربي – يدرك إلى أين هو ذاهب !!! ) ولا الى أي وجهة هو موليها !!0
إذا فالمثقف العربي اليوم تنتظره حروب كثيرة , ومعارك أكثر شراسة , إذا ما أراد تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي , فحروب المثقفين العرب اليوم هي حروب ومعارك من نوع لا يستخدم فيه رصاص البندقية بقدر ما تستخدم فيها كتابات الحرية والنضال الفكري , ومعارك هي بحاجة إلى تجديد في الدماء بشكل يومي , وشهداء للكلمة في سبيل مجتمع جديد , لا تنفصل فيه الثقافة عن السياسة وهندسة المعاني الأدبية عن المعادلات السياسية 0
أ. محمد بن سعيد الفطيسي
أ. محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية